فصل: رقم الآية ‏(‏146 ‏:‏ 147‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 رقم الآية ‏(‏125‏:‏128‏)

‏{‏ وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم‏}‏

عن ابن عباس ‏{‏وإذ جعلنا البيت مثابة للناس‏}‏ قال‏:‏ يثوبون إليه ثم يرجعون‏.‏ وحدث عبدة بن أبي لبابة قال‏:‏ لا ينصرف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطراً قال الشاعر‏:‏

جعل البيت مثاباً لهم * ليس منه الدهرَ يقضون الوَطَر

وقال سعيد بن جبير في الرواية الأخرى وعكرمة وقتادة ‏{‏مثابة للناس‏}‏‏:‏ أي مجمعاً ‏{‏أمناً‏}‏ أي أمناً للناس، وقد كانوا في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يُسبون‏.‏

ومضمون هذه الآية أن اللّه تعالى يذكر شرف البيت، وما جعله موصوفاً به شرعاً وقدراً من كونه مثابةً للناس، أي جعله محلاً تشتاق إليه الأرواح وتحنّ إليه، ولا تقضي منه وطراً ولو ترددت إليه كل عام، استجابة من اللّه تعالى لدعاء خليله إبراهيم عليه السلام، في قوله‏:‏ فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم‏}‏ إلى أن قال‏:‏ ‏{‏ربنا وتقبل دعائي‏}‏، ويصفه تعالى بأنه جعله أمناً من دخله أمن، ولو كان قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمناً‏.‏ فقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فيه فلا يعرض له‏.‏ وما هذا الشرف إلا لشرف بانيه أولاً وهو خليل الرحمن كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا‏}‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين * فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا‏}‏ وفي هذه الآية الكريمة نبّه على مقام إبراهيم مع الأمر بالصلاة عنده، فقال‏:‏ ‏{‏واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى‏}‏ وقد اختلف المفسرون في المراد بالمقام ما هو‏؟‏ فقال مجاهد عن ابن عباس‏:‏ مقام إبراهيم الحرم كله، وقيل‏:‏ مقام إبراهيم الحج كله منى ورمي الجمار والطواف بين الصفا والمروة ‏"‏ذكره عطاء عن ابن عباس رضي اللّه عنهما‏"‏وقال سفيان الثوري عن سعيد بن جبير‏:‏ ‏{‏واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى‏}‏ قال‏:‏ الحجر مقام إبراهيم نبي اللّه قد جعله الله رحمة فكان يقوم عليه ويناوله إسماعيل الحجارة، وقال السدي‏:‏ المقام الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم حتى غسلت رأسه‏.‏ عن جعفر بن محمد عن أبيه‏:‏ سمع جابراً يحدّث عن حجة النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ لما طاف النبي صلى اللّه عليه وسلم قال له عمر‏:‏ هذا مقام أبينا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏، قال‏:‏ أفلا نتخذه مصلى‏؟‏ فأنزل اللّه عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى‏}‏ وقال البخاري‏:‏ باب قوله ‏{‏واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى‏}‏ مثابة يثوبون‏:‏ يرجعون‏.‏ قال عمر بن الخطّاب‏:‏ وافقت ربي في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول اللّه لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلّى، فنزلت ‏{‏واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى‏}‏ وقلت‏:‏ يا رسول اللّه يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أُمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل اللّه آية الحجاب‏.‏ قال‏:‏ وبلغني معاتبة النبي صلى اللّه عليه وسلم بعض نسائه فدخلت عليهن فقلت‏:‏ إن انتهيتن أو ليبدلن اللّه رسوله خيراً منكن، حتى أتيت إحدى نسائه قالت‏:‏ يا عمر أما في رسول اللّه ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت، فأنزل اللّه ‏{‏عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات‏}‏ الآية‏.‏

وقال أنَس‏:‏ قال عمر رضي اللّه عنه‏:‏ وافقت ربي عزّ وجلّ في ثلاث، قلت‏:‏ يا رسول اللّه لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت‏:‏ ‏{‏واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى‏}‏، وقلت‏:‏ يا رسول اللّه إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب‏.‏ واجتمع على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نساؤه في الغيرة فقلت لهن‏:‏ عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزاجاً خيراً منكن فنزلت كذلك ‏"‏رواه أحمد عن أنس رضي اللّه عنه‏"‏ورواه الإمام مسلم بن حجاج في صحيحه بسند آخر ولفظ آخر عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال‏:‏ وافقت ربي في ثلاث‏:‏ في الحجاب، وفي أسارى بدر، وفي مقام إبراهيم‏.‏

وروى ابن جريج عن جابر‏:‏ أن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعاً حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصّلى خلفه ركعتين، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى‏}‏ وقال ابن جرير عن جابر قال‏:‏ استلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الركن فرمل ثلاثاً ومشى اربعاً ثم نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ‏:‏ ‏{‏واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى‏}‏ فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى ركعتين، وهذا قطعة من الحديث الطويل الذي رواه مسلم في صحيحه‏.‏ فهذا كلهم مما يدل على أن المراد بالمقام إنما هو الحجر، الذي كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه لبناء الكعبة، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه، ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار، وكلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأُخرى يطوف حول الكعبة وهو واقف عليه كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها وهكذا حتى تم جدران الكعبة كما سيأتي بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه، ولم يزل هذا معروفاً تعرفه العرب في جاهليتها، ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المعروفة اللامية‏:‏

وموطىء إبراهيم في الصخر رطبة * على قدميه حافياً غير ناعل

وقد كان هذا المقام ملصقاً بجدار الكعبة ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب، مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب، في البقعة المستقلة هناك، وكان الخليل عليه السلام لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة، أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك، ولهذا - واللّه أعلم - أمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف، وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه وإنما أخّره عن جدار الكعبة أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، أحد الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين، الذين أمرنا بأتباعهم، وهو أحد الرجلين اللذين قال فيهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏(‏اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر‏)‏ ‏"‏أخرجه الترمذي عن حذيفة بن اليمان‏"‏، وهو الذي نزل القرآن يوافقه في الصلاة عنده ولهذا لم ينكر ذلك أحد من الصحابة رضي اللّه عنهم أجمعين‏.‏

عن عائشة رضي اللّه عنها أن المقام كان زمان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وزمان أبي بكر رضي اللّه عنه ملتصقاً بالبيت ثم أخره عمر بن الخطاب رضي اللّه ععنه ‏"‏رواه البهيقي قال ابن كثير‏:‏ وهذا إسناد صحيح‏"‏وعن مجاهد قال‏:‏ قال عمر بن الخطاب‏:‏ يا رسول اللّه لو صلّينا خلف المقام، فأنزل ‏{‏واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى‏}‏ فكان‏ المقام عند البيت فحوَّله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى موضعه هذا ‏"‏رواه ابن مردويه عن مجاهد‏.‏ قال ابن كثير‏:‏ هذا مرسل عن مجاهد وهو مخالف لرواية عبد الرزاق عنه‏"‏وهو مخالف لما تقدم أن أول من أخَّر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، وهذا أصح من طريق ابن مردويه مع اعتضاد هذا بما تقدم، واللّه أعلم‏.‏

التفسير‏:‏ قال الحسن البصري‏:‏ قوله تعالى ‏{‏وعهدنا إلى ابراهيم وإسماعيل‏}‏‏:‏ أمرهما اللّه أن يطهرهاه من الأذى والنجس، ولا يصيبه من ذلك شيء‏.‏ وقال ابن جريج قلت لعطاء ما عهده‏؟‏ قال أمره‏.‏ والظاهر أن هذا الحرف إنما عدّي بإلى لأنه في معنى أوحينا‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين‏}‏ أي من الأوثان والرفث وقول الزور والرجس‏.‏ قال مجاهد وعطاء وقتادة‏:‏ ‏{‏أن طهرا بيتي‏}‏ أي بلا إله إلا اللّه، من الشرك، وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏للطائفين‏}‏ فالطواف بالبيت معروف، وعن سعيد بن جبير أنه قال‏:‏ ‏{‏للطائفين‏}‏ يعني من أتاه من غربة ‏{‏والعاكفين‏}‏ المقيمين فيه‏.‏

وهكذا روي عن قتادة والربيع بن أنَس أنَّهما فسَّرا العاكفين بأهله المقيمين فيه وعن ابن عباس قال‏:‏ إذا كان جالساً فهو من العاكفين، وعن ثابت قال‏:‏ قلنا لعبد اللّه بن عبيد بن عمير ما أراني إلا مكلم الأمير أن أمنع الذين ينامون في المسجد الحرام فإنهم يجنبون ويحدثون، قال‏:‏ لا تفعل فإن ابن عمر سئل عنهم فقال‏:‏ هم العاكفون ‏"‏رواه ابن أبي حاتم عن حماد بن سلمة عن ثابت‏"‏

قلت‏:‏ وقد ثبت في الصحيح أن ابن عمر كان ينام في مسجد الرسول صلى اللّه عليه وسلم وهو عزب، وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والركع السجود‏}‏ فقال عطاء عن ابن عباس إذا كان مصلياً فهو من الركع السجود‏.‏

قال ابن جرير رحمه اللّه فمعنى الآية‏:‏ وأمرنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين، والتطهيرُ الذي أمرهما به في البيت هو تطهيره من الأصنام وعبادة الأوثان فيه ومن الشرك، فإن قيل‏:‏ فهل كان قبل بناء إبراهيم عند البيت شيء من ذلك الذي أمر بتطهيره منه‏؟‏ فالجواب من وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه أمرهما بتطهيره مما كان يعبد عنده زمان قوم نوح من الأصنام والأوثان، ليكون ذلك سنة لمن بعدهما إذ كان اللّه تعالى قد جعل إبراهيم إماماً يقتدى به‏.‏ قلت‏:‏ وهذا الجواب مفرّعٌ على أنه كان يعبد عنده أصنام قبل إبراهيم عليه السلام، ويحتاج إثبات هذا إلى دليل عن المعصوم محمد صلى اللّه عليه وسلم الثاني‏:‏ أنه أمرهما أن يخلصا في بنائه للّه وحده لا شريك له فيبنياه مطهراً من الشرك والريب، كما قال جلّ ثناؤه‏:‏ ‏{‏أفمن أسس بنانه على تقوى من اللّه ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار‏}‏‏؟‏ قال فكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وعهدنا إلى إبرهيم وإسماعيل أن طهِّرا بيتي‏}‏ أي ابنياه على طهر من الشرك بي والريب، وملخص هذا الجواب أن اللّه تعالى أمر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أن يبنيا الكعبة على اسمه وحده لا شريك له، للطائفين به والعاكفين عنده والمصلين إليه من الركع السجود كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود‏}‏ الآيات‏.‏

وقد اختلف الفقهاء أيَّهمَا أفضل الصلاة عند البيت أو الطواف به‏؟‏ فقال مالك رحمه اللّه الطواف به لأهل الأمصار أفضل، وقال الجمهور‏:‏ الصلاة أفضل مطلقاً، وتوجيه كل منهما يذكر في كتاب الأحكام، والمراد من ذلك الرد على المشركين، الذين كانوا يشركون باللّه عند بيته، المؤسس على عبادته وحده لا شريك له، ثم مع ذلك يصدون أهله المؤمنين عنه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف به والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم‏}‏، ثم ذكر أن البيت إنما أسس لمن يعبد اللّه وحده لا شريك له، إما بطواف أو صلاة، فذكر في سورة الحج أجزاءها الثلاثة قيامها وركوعها وسجودها ولم يذكر العاكفين لأنه تقدم ‏{‏سواء العاكف فيه والباد‏}‏ وفي هذه الآية الكريمة ذكر الطائفين والعاكفين، واكتفى بذكر الركوع والسجود عن القيام، لأنه قد علم أنه لا يكون ركوع ولا سجود إلا بعد قيام وفي ذلك أيضاً رد على من لا يحجه من أهل الكتابين اليهود والنصارى لأنهم يعتقدون فضيلة إبراهيم الخليل وإسماعيل ويعلمون أنه بنى هذا البيت للطواف في الحج والعمرة وهم لا يفعلون شيئاً من ذلك، فكيف يكونون مقتدين بالخليل وهم لا يفعلون ما شرع اللّه له‏؟‏ وقد حج البيت موسى بن عمران وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما أخبر بذلك المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ‏{‏إن هو إلا وحي يوحى‏}‏‏.‏

وتقدير الكلام إذن‏:‏ ‏{‏وعهدنا إلى إبرهيم‏}‏ أي تقدمنا بوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل ‏{‏أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود‏}‏ أي طهراه من الشرك والريب وابنياه خالصاً للّه معقالاً للطائفين والعاكفين والركع السجود‏.‏ وتطهير المساجد مأخوذ من هذه الآية الكريمة ومن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏في بيوت أذن اللّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال‏}‏، ومن السنّة من أحاديث كثيرة من الأمر بتطهيرها وتطييبها وغير ذلك من صيانتها من الأذى والنجاسات وما أشبه ذلك‏.‏ ولهذا قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏إنما بنيت المساجد لما بنيت له‏)‏، وقد جمعت في ذلك جزءاً على حدة وللّه الحمد والمنة‏.‏ وقد اختلف الناس في أول من بنى الكعبة‏؟‏ فقيل‏:‏ الملائكة قبل آدم ذكره القرطبي وحكى لفظه وفيه غرابة، وقيل آدم عليه السلام رواه عطاء وسعيد بن المسيب وهذا غريب أيضاً‏.‏ وروي عن ابن عباس وكعب الأحبار أن أول من بناه شيث عليه السلام، وغالب من يذكر هذا إنما يأخذه من كتب أهل الكتاب وهي مما لا يصدق ولا يكذب ولا يعتمد عليها بمجردها‏.‏ وأما إذا صح حديث في ذلك فعلى الرأس والعين‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر‏}‏ قال ابن جرير عن جابر بن عبد اللّه‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إن إبراهيم حرَّم بيت اللّه وأمَّنه، وإني حرمت المدينة وما بين لابتيها، فلا يصاد صيدها ولا يقطع عضاهها ‏"‏رواه النسائي وأخرجه مسلم بطريق آخر‏"‏‏)‏ عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فإذا أخذه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مُدّنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه‏)‏ ثم يدعو أصغر وليد له فيعطيه ذلك الثمر ‏"‏رواه مسلم، وفي لفظٍ له ‏(‏بركة مع بركة‏)‏ ثم يعطيه أصغر من حضر من الولدان‏"‏‏.‏ وفي الصحيحين عن أنَس بن مالك قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأبي طلحة‏:‏ ‏(‏التمس لي غلاماً من غلمانكم يخدمني‏)‏، فخرج بي أبو طلحة يردفني وراءه، فكنت أخدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كلما نزل‏.‏

وقال في الحديث‏:‏ ثم أقبل حتى بدا له أحد قال‏:‏ ‏(‏هذا جبلٌ يحبنا ونحبه‏)‏، فلما أشرف على المدينة قال‏:‏ ‏(‏اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم به إبراهيم مكة، اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم‏)‏، وفي لفظ لهما‏:‏ ‏(‏اللهم بارك لهم في مكيالهم وبارك لهم في مدهم‏)‏ زاد البخاري يعني‏:‏ أهل المدينة‏.‏ وعن أنَس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلته بمكة من البركة‏)‏ ‏"‏رواه البخاري ومسلم‏"‏وعن أبي سعيد رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حراماً، وإني حرمت المدينة حراماً ما بين مأزميها، أن لا يهراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف، اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم بارك لنا في صاعنا، اللهم بارك لنا في مُدّنا، اللهم اجعل مع البركة بركتين ‏"‏رواه مسلم‏"‏‏)‏، والأحاديث في تحريم المدينة كثيرة وإنما أوردنا منها ما هو متعلق بتحريم إبراهيم عليه السلام لمكة لما في ذلك من مطابقة الآية الكريمة، وتمسك بها من ذهب إلى أن تحريم مكة إنما كان على لسان إبراهيم الخليل، وقيل‏:‏ إنها محرمة منذ خلقت مع الأرض، وهذا أظهر وأقوى واللّه أعلم‏.‏

وقد وردت أحاديث أُخر تدل على أن اللّه تعالى حرّم مكة قبل خلق السماوات والأرض كما جاء في الصحيحين عن عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنهما قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم فتح مكة‏:‏ ‏(‏إن هذا البلد حرمه اللّه يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة اللّه إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة اللّه إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرّفها ولا يختلى خلاها‏)‏، فقال العباس‏:‏ يا رسول اللّه الإذخر فإنه لقّيْنهم ولبيوتهم، فقال‏:‏ ‏(‏إلا الإذخر‏)‏‏.‏ وعن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد - وهو يبعث البعوث إلى مكة - ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولاً قام به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الغد من يوم الفتح، سمعْته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تكلم به، إنه حمد اللّه وأثنى عليه ثم قال‏:‏ ‏(‏إن مكة حرمها اللّه ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرىء يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخَّص بقتال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقولوا‏:‏ إنَّ اللّه أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ليبلغ الشاهد الغائب ‏"‏رواه البخاري ومسلم عن ابي شريح العدوي‏"‏‏)‏ فقيل لأبي شريح ما قال لك عمرو‏؟‏ قال‏:‏ أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فاراً بدم ولا فاراً بخربة‏.‏

فإذا علم هذا فلا منافاة بين هذه الأحاديث، الدالة على أن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، وبين الأحاديث الدالة عى أن إبراهيم عليه السلام حرمها، لأن إبراهيم بلّغ عن اللّه حكمه فيها، وتحريمه إياها وأنها لم تزل بلداً حراماً عند اللّه قبل بناء إبراهيم عليه السلام لها، كما أنه قد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكتوباً عند اللّه خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، ومع هذا قال إبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏{‏ربنا وابعث فيه رسولا منهم‏}‏ وقد أجاب اللّه دعاءه بما سبق في علمه وقدره‏.‏

وأما  مسألة تفضيل مكة على المدينة كما هو قول الجمهور، أو المدينة على مكة كما هو مذهب مالك وأتباعه، فتذكر في موضع آخر بأدلتها إن شاء اللّه وبه الثقة‏.‏ وقوله تعالى إخباراً عن الخليل‏:‏ ‏{‏رب اجعل هذا بلداً آمنا‏}‏ أي من الخوف أي لا يرعب أهله، وقد فعل اللّه ذلك شرعاً وقدراً، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن دخله كان آمنا‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويُتخطف الناس من حولهم‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات وقد تقدمت الأحاديث في تحريم القتال فيه، وفي صحيح مسلم عن جابر سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح‏)‏، وقال في هذه السورة‏:‏ ‏{‏رب اجعل هذا بلدا آمنا‏}‏ أي اجعل هذه البقعة بلداً آمناً وناسب هناك لأنه - واللّه أعلم - كأنه وقع دعاء مرة ثانية بعد بناء البيت واستقرار أهله به، وبعد مولد إسحاق الذي هو أصغر سناً من إسماعيل بثلاث عشرة سنة، ولهذا في آخر الدعاء‏:‏ ‏{‏الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وأسحق إن ربي لسميع الدعاء‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم باللّه واليوم الآخر، قال‏:‏ ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير‏}‏ قال أبو جعفر الرازي عن أُبيّ بن كعب ‏{‏قال ومن كفر‏}‏ الآية هو قول اللّه تعالى‏.‏ وهذا قول مجاهد وعكرمة وهو الذي صوبه ابن جرير رحمه اللّه قال‏:‏ وقرأ آخرون‏:‏ ‏{‏قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير‏}‏ فجعلوا ذلك من تمام دعاء إبراهيم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏كان إبراهيم يحجرها على المؤمنين دون الناس، فأنزل اللّه ومن كفر أيضاً أرزقهم كما أرزق المؤمنين، أأخلق خلقاً لا أرزقهم‏؟‏ أمتعهم قليلاً ثم أضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير‏)‏ ثم قرأ ابن عباس‏:‏ ‏{‏كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً‏}‏ ‏"‏أخرجه ابن مردويه وروي نحوه عن مجاهد وعكرمة‏"‏، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون‏}‏، وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير‏}‏ أي ثم ألجئه بعد متاعه في الدنيا، وبسطنا عليه من ظلها ‏{‏إلى عذاب النار وبئس المصير‏}‏ ومعناه أن اللّه تعالى يُنْظرهم ويمهلهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير‏}‏‏.‏ وفي الصحيح‏:‏ ‏(‏إن اللّه ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته‏)‏، ثم قرأ تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد‏}‏‏.‏

يتبع‏.‏‏.‏

وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم‏}‏ فالقواعد جمع قاعدة، وهي السارية والأساس، يقول تعالى‏:‏ واذكر يا محمد لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام البيت، ورفعهما القواعد منه وهما يقولان‏:‏ ‏{‏ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم‏}‏ فهما في عمل صالح وهما يسألان اللّه تعالى أن يتقبل منهما، وقال بعض المفسِّرين‏:‏ الذي كان يرفع القواعدَ هو إبراهيم، والداعي إسماعيل، والصحيحُ أنهما كانا يرفعان ويقولان كما سيأتي بيانه‏.‏ وقد روى البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال‏:‏ أول ما اتخذ النساء المِنطَق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقاً لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبإبنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك ووضع عندها جِراباً فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفّى إبراهيم منطلقاً فتبعته إم إسماعيل فقالت‏:‏ يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء‏؟‏ فقالت له ذلك مراراً وجعل لا يلتفت إليها، فقالت‏:‏ آللّه أمرك بهذاً‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قالت‏:‏ إذاً لا يضيعنا، ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهذه الدعوات ورفع يديه فقال‏:‏ ‏{‏ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم‏}‏ حتى بلغ ‏{‏يشكرون‏}‏‏.‏

وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوّى - أو قال يتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم تر أحداً، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحداً، فلم تر أحداً ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس‏:‏ قال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏فلذلك سعى الناس بينهما‏)‏، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقال‏:‏ ‏(‏صه‏)‏ - تريد نفسها - ثم تسمَّعت فسمعت أيضاً، فقالت‏:‏ قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالمَلَك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه - أو قال بجناحه - حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف، قال ابن عباس‏:‏ قال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏يرحم اللّه أم إسماعيل لو تركت زمزم - أو قال لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عيناً معيناً‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك‏:‏ لا تخافي الضيعة فإن ههنا بيتاً للّه يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن اللّه لا يضيّع أهله، وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم، أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في اسفل مكة فرأوا طائراً عائفاً، فقالوا‏:‏ إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم بالماء، فأقبلوا، قال‏:‏ وأُم إسماعيل عند الماء، فقالوا‏:‏ أتأذنين لنا أن ننزل عندك‏؟‏ قالت‏:‏ نعم ولكن لا حقَّ لكم في الماء عندنا، قالوا‏:‏ نعم، قال ابن عباس قال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏(‏فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس‏)‏، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم وأنفسَهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوَّجوه امرأة منهم‏.‏

وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت‏:‏ خرج يبتغي لنا، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت‏:‏ نحن بشرِّ، نحن في ضيق وشدة فشكت إليه، قال‏:‏ إذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغيِّر عتبةَ بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه أنس شيئاً فقال‏:‏ هل جاءكم من أحد‏؟‏ قالت‏:‏ نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألنا عنك فأخبرته وسألني كيف عيشنا‏؟‏ فأخبرته أننا في جهد وشدة، قال‏:‏ فهل أوصاك بشيء‏؟‏ قالت‏:‏ نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول غَيَّر عتبة بابك، قال‏:‏ ذاك أبي وقد أمرني أن أٌن أُفارقك فالحقي بأهلك، وطلَّقها وتزوج منهم بأخرى‏.‏ فلبث عنهم إبراهيم ما شاء اللّه ثم أتاهم بعد فلم يجده فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت‏:‏ خرج يبتغي لنا، قال‏:‏ كيف أنتم‏؟‏ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت‏:‏ نحن بخير وسعة، وأثنت على اللّه عزّ وجلّ، قال‏:‏ ما طعامكم‏؟‏ قالت‏:‏ اللحم، قال‏:‏ فما شرابكم‏؟‏ قالت‏:‏ الماء، قال‏:‏ اللهم بارك لهم في اللحم والماء، قال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ولم يكن لهم يومئذ حبّ ولو كان لهم لدعا لهم فيه‏)‏، قال‏:‏ فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه، قال‏:‏ فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه يثبت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل قال‏:‏ هل أتاكم من أحد‏؟‏ قالت‏:‏ نعم أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا‏؟‏ فأخبرته أنَّا بخير، قال أنَّا بخير، قال‏:‏ فأوصاك بشيء‏؟‏ قالت‏:‏ نعم هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن ثبِّت عتبة بابك، قال‏:‏ ذاك أبي وأنت العتبة أمرني أن أمسكك‏.‏ ثم لبث عنهم ما شاء اللّه ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة، قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه وصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، ثم قال‏:‏ يا إسماعيل إن اللّه أمرني بأمر قال‏:‏ فاصنع ما أمرك ربك، قال‏:‏ وتعينني‏؟‏ قال‏:‏ وأعينك، قال‏:‏ فإن اللّه أمرني أن أبني ههنا بيتاً، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها قال‏:‏ فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه، وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان‏:‏ ‏{‏ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم‏}‏ قال‏:‏ فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان‏:‏ ‏{‏ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم‏}‏‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ حدثنا عبد اللّه بن محمد أخبرنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو، أخبرنا إبراهيم بن نافع عن كثير بن كثير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال‏:‏ ‏(‏لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان خرج بإسماعيل وأُم إسماعيل ومعهم شنة فيها ماء فجعلت أُم إسماعيل تشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها حتى قدم مكة فوضعهما تحت دوحة ثم رجع إبراهيم إلى أهله، فاتبعته أم إسماعيل حتى بلغوا كداء نادته من ورائه‏:‏ يا إبراهيم إلى من تتركنا‏؟‏ قال‏:‏ إلى اللّه، قالت‏:‏ رضيت باللّه‏.‏ قال‏:‏ فرجعت تشرب من الشنة ويدر لبناها على صبيها حتى لما فنى الماء‏.‏ قالت‏:‏ لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحداً، فذهبت فصعدت الصفا‏.‏ فنظرت هل تحس أحداً‏؟‏ فلم تحس أحداً، فلما بلغت الوادي سعت حتى أتت المروة وفعلت ذلك أشواطاً حتى أتمت سبعاً، ثم قالت‏:‏ لو ذهبت فنظرت ما فعل الصبي، فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله كأنه ينشغ للموت فلم تقرها نفسها، فقالت‏:‏ لو ذهبت فنظرتُ لعلي أحس أحداً، فذهبت فصعدت الصفا، فنظرت ونظرت فلم تحس أحداً حتى أتمت سبعاً، ثم قالت‏:‏ لو ذهبت فنظرت ما فعل، فإذا هي بصوت فقالت‏:‏ أغث إن كان عندك خير، فإذا جبريل عليه السلام قال‏:‏ فقال بعقبه هكذا وغمز عقبه على الأرض، قال‏:‏ فانبثق الماء فدهشت أم إسماعيل فجعلت تحفر قال‏:‏ فقال أبو القاسم صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لو تركته لكان الماء ظاهراً‏)‏ قال‏:‏ فجعلت تشرب من الماء ويدرُّ لبنها على صبيها‏.‏ قال‏:‏ فمرّ ناس من جرهم ببطن الوادي فإذا هم بطير كأنهم أنكروا ذلك، وقالوا‏:‏ ما يكون الطير إلا على ماء، فبعثوا رسولهم فنظر فإذا هو بالماء فأتاهم فأخبرهم، فأتوا إليها فقالوا‏:‏ يا أم إسماعيل أتاذنين لنا أن نكون معك ونسكن معك‏؟‏

فبلغ ابنها ونكح منهم امرأة‏.‏ قال‏:‏ ثم إنه بدا لإبراهيم صلى اللّه عليه وسلم فقال لأهله‏:‏ إني مطلع تركتي، قال‏:‏ فجاءهم فسلّم فقال‏:‏ أين إسماعيل‏؟‏ قالت امرأته‏:‏ ذهب يصيد، قال‏:‏ قولي له إذا جاء غيَّرْ عتبةَ بابك، فلما أخبرته قال‏:‏ أنتِ ذاك فاذهبي إلى أهلك، قال‏:‏ ثم إنه بدا لإبراهيم فقال‏:‏ إني مطلع تركتي قال، فجاء فقال‏:‏ أين إسماعيل‏؟‏ فقالت امرأته‏:‏ ذهب يصيد، فقالت‏:‏ ألا تنزل فتطعم وتشرب‏؟‏ فقال‏:‏ ما طعامكم وما شرابكم‏؟‏ قالت‏:‏ طعامنا اللحم وشرابنا الماء‏.‏ قال‏:‏ اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم‏.‏ قال‏:‏ فقال أبو القاسم صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏بركة بدعوة إبراهيم‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ثم إنه بدا لإبراهيم صلى اللّه عليه وسلم، فقال لأهله‏:‏ إني مطلع تركتي فجأة فوفق إسماعيل من وراء زمزم يصلح نبلاً له، فقال‏:‏ يا إسماعيل إن ربك عزّ وجلّ أمرني أن أبني له بيتاً، فقال‏:‏ أطع ربك عزّ وجلّ، قال‏:‏ إنه أمرني أن تعينني عليه، فقال‏:‏ إذن افعل - أو كما قال - فقام فجعل إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، ويقولان‏:‏ ‏{‏ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم‏}‏ قال‏:‏ حتى ارتفع البناء، وضعف الشيخ عن نقل الحجارة، فقام على حجر المقام، فجعل يناوله الحجارة ويقولان‏:‏ ‏{‏ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم‏}‏‏.‏

قال محمد بن إسحاق عن مجاهد وغيره من أهل العلم‏:‏ إن اللّه بوأ إبراهيم مكان البيت، خرج إليه من الشام وخرج معه إسماعيل وأُمه هاجر، وإسماعيل طفل صغير يرضع، ومعه جبريل يدله على موضع البيت ومعالم الحرم، فكان لا يمر بقرية إلا قال‏:‏ أبهذه أُمرتُ يا جبريل‏؟‏ فيقول جبريل‏:‏ امضه، حتى قدم به مكة وهي إذ ذاك عضاه سلم وسمر وبها أناس يقال لهم العماليق خارج مكة وما حولها، والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة فقال إبراهيم لجبريل‏:‏ أههنا أمرت أن أضعهما‏؟‏ قال‏:‏ نعم، فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه، وأمر هاجرأُم إسماعيل أن تتخذ فيه عرشاً فقال‏:‏ ‏{‏ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لعلهم يشكرون‏}‏ وقال عبد الرزاق عن مجاهد‏:‏ خلق اللّه موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئاً بألفي سنة وأركانه في الأرض السابعة‏.‏

وقال البخاري رحمه اللّه قوله تعالى ‏{‏وإذ يرفع إبراهيم القوعد من البيت وإسماعيل‏}‏ الآية‏:‏ القواعد أساسه، واحدها قاعدة، والقواعد من النساء واحدتها قاعدة، عن عائشة زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ألم تريْ أن قومك حين بنوا البيت اقتصروا عن قواعد إبراهيم‏؟‏‏)‏ فقلت‏:‏ يا رسول اللّه ألا تردها على قواعد إبراهيم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لولا حدثان قومك بالكفر‏)‏، فقال عبد اللّه بن عمر‏:‏ لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما أرى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر، إلا أن البيت لم يتم على قواع إبراهيم عليه السلام‏.‏ ورواه مسلم أيضاً من حديث نافع عن عائشة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية - أو قال بكفر - لأنفقت كنز الكعبة في سبيل اللّه ولجعلت بابها بالأرض، ولأدخلت فيها الحِجْر‏)‏‏.‏

ذكر بناء قريش الكعبة بعد إبراهيم الخليل عليه السلام وقبل مبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بخمس سنين

وقد نقل معهم الحجارة وله من العمر خمس وثلاثون سنة صلوات اللّه وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين‏.‏

قال محمد بن إسحاق في السيرة‏:‏ ولما بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خمساً وثلاثين سنة، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة وكانوا يهابون هدمها، وإنما كانت رضماً فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفراً سرقوا كنز الكعبة‏.‏ وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم فتحطمت، فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها، وكان بمكة رجل قبطي نجار فهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة فتشرف على جدار الكعبة وكانت مما يهابون، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزألت إحْزأَلَّتْ‏:‏ ارتفعت واستعدث للوثوب وكشت وفتحت فاها فكانوا يهابونها، فبينا هي يوماً تشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع، بعث اللّه إليها طائراً فاختطفها فذهب بها، فقالت قريش‏:‏ إنّا لنرجو أن يكون اللّه قد رضي ما أردنا، عندنا عامل رفيق وعندنا خشب وقد كفانا اللّه الحية، فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنيانها قام ابن وهب خال والد النبي، وكان شريفاً ممدوحاً بن عمرو بن عائذ فتناول من الكعبة حجراً فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال‏:‏ يا معشر قريش لا تدخلوا في بنانها من كسبكم إلا طيباً، لا يدخل فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس‏.‏

ثم إن قريشاً تجزأت الكعبة فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبني جمح وسهم، وكان شق الحجر لبني عبد الدار ابن قصي ولبني أسد بن عبد العزى بن قصي ولبني عدي بن كعب بن لؤي وهو الحطيم، ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه، فقال الوليد بن المغيرة‏:‏ أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول‏:‏ اللهم لم ترع، اللهم إنا لا نريد إلا الخير، ثم هدم من ناحية الركنين، فتربص الناس تلك الليلة وقالوا‏:‏ ننظر فإن أصيب لم نهدم منها شيئاً ورددناها كما كانت وإن لم يصبه شيء فقد رضي اللّه ما صنعنا، فأصبح الوليد من ليلته غادياً على عمله‏.‏ فهدم، وهدم الناس معه حتى انتهى الهدم بهم إلا الأساس - أساس إبراهيم عليه السلام - أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة آخذ بعضها بعضاً قال‏:‏ فحدثني بعض من يروي الحديث‏:‏ أن رجلاً من قريش ممن كان يهدمها أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أيضاً أحدهما فلما تحرك الحجر انتفضت مكة بأسرها فانتهوا عن ذلك الأساس‏.‏

‏{‏ وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ‏}‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة، ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن يعني الحجر الأسود فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحاوروا وتخالفوا وأعدوا للقتال، فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دماً، ثما تعاقدوا هم وبنوا عدي ابن كعب بن لؤي على الموت وأدخلوا إيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة فسموا ‏(‏لَعَقَة الدم‏)‏ فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمساً، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا، فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أُمية بن المغيرة - وكان عامئذ أسنَّ قريش كلهم - قال‏:‏ يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد، يقضي بينكم فيه ففعلوا، فكان أول داخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلما رأوه قالوا‏:‏ هذا الأمين رضينا ‏.‏‏.‏‏.‏هذا محمد، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏هلمَّ إليَّ بثوب، فأُتي به، فأخذ الركن - يعني الحجر الأسود - فوضعه فيه بيده ثم قال‏:‏ لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعاً، ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده صلى اللّه عليه وسلم، ثم بنى عليه، وكانت قريش تسمي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي الأمين‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكانت الكعبة على عهد النبي صلى اللّه عليه وسلم ثماني عشر ذراعاً، وكان تكسي القباطي، ثم كسيت بعدُ البرود، وأول من كساها الديباج الحجّاج بن يوسف قلت‏:‏ ولم تزل على بناء قريش حتى احترقت في أول إمارة عبد اللّه بن الزبير بعد سنة ستين وفي آخر ولاية يزيد بن معاوية لما حاصروا ابن الزبير، فحينئذ نقضها ابن الزبير

إلى الأرض وبناها على قواعد إبراهيم عليه السلام، وأدخل فيها الحجر وجعل لها باباً شرقياً وباباً غربياً ملصقين بالأرض كما سمع ذلك من خالته عائشة أُم المؤمنين عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم تزل كذلك مدة إمارته حتى قتله الحجّاج، فردّها إلى ما كانت عليه بأمر عبد الملك بن مروان له بذلك، كما قال مسلم عن عطاء‏:‏ ‏(‏لمَّا احترق البيت زمن يزيد بن معاويةحين غزاها أهل الشام فكان من أمره ما كان تركه ابن الزبير، حتى قدم الناس الموسم يريد أن يحزبهم أو يجيروهم على أهل الشام، فلما صدر الناس قال‏:‏ يا أيها الناس أشيروا عليّ في الكعبة أنقضها ثم أبني بناءها أو أصلح ما وهَى منها‏؟‏

قال ابن عباس‏:‏ إنه قد خرق لي رأي فيها أرى أن تصلح ما وهَى منها وتدع بيتاً أسلم الناس عليه، وأحجاراً أسلم الناس عليها النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال ابن الزبير‏:‏ لو كان أحدهم احترق بيته ما رضي حتى يجدِّده فكيف بيت ربكم عزّ وجلّ‏؟‏ إني مستخير ربي ثلاثاً ثم عازم على أمري‏.‏ فلما مضت ثلاث أجمع رأيه على أن ينقضها، فتحاماها الناس أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمر من السماء حتى صعده رجل فألقى منه حجارة‏.‏

فلما لم يره الناس أصابه شيء تتابعوا فنقضوه حتى بلغوا به الأرض‏.‏ فجعل ابن الزبير أعمدة يستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤهه‏.‏ وقال ابن الزبير‏:‏ إني سمعت عائشة رضي اللّه عنها تقول‏:‏ إن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لولا أن الناس حديثٌ عهدهم بكفر وليس عندي من النفقة ما يقويني على بنائه لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرع ولجعلت له بابً يدخل الناس منه، وباباً يخرجون منه‏)‏، قال‏:‏ فأنا أجد ما أنفق ولست أخاف الناس‏.‏ قال‏:‏ فزاد خمسة أذرع من الحجر حتى أبدى له أساً فنظر الناس إليه فبنى عليه البناء، وكان طول الكعبة ثمانية عشر ذراعاً، فلما زاد فيه استقصره فزاد في طوله عشرة أذرع وجعل له بابين أحدهما يدخل منه، والأخر يخرج منه‏.‏ فلما قُتِل ابن الزبير كتب الحجّاج إلى عبد الملك يستجيزه بذلك، ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أسٍّ نظر إليه العدول من أهل المكة‏.‏ فكتب إليه عبد الملك‏:‏ إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء، أما ما زاده في طوله فأقره، وأما ما زاد فيه من الحِجْر فردّه إلى بنائه وسد الباب الذي فتحه، فنقضه وأعاده إلى بنائه‏)‏ ‏"‏رواه مسلم والنسائي عن عطاء، واللفظُ لمسلم‏"‏

وقد كانت السُنَّة إقرار ما فعله عبد اللّه بن الزبير رضي اللّه عنهما لأنه هو الذي ودّه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ولكن خشي أن تنكره قلوب بعض الناس لحداثة عهدهم بالإسلام وقرب عهدهم من الكفر، ولكن خفيت هذه السنة على عبد الملك بن مروان ولهذا لما تحقق ذلك عن عائشة أنها روت ذلك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ وددنا أنا تركناه وما تولى‏.‏ فدل هذا على صواب ما فعله ابن الزبير، فلو ترك لكان جيداً‏.‏

ولكنْ بعدما رجع الامر إلى هذا الحال فقد كره بعض العلماء أن يغيَّر عن حاله، كما ذكر عن أمير المؤمنين هارون الرشيد أو أبيه المهدي، أنه سأل الإمام مالكاً عن هدم الكعبة وردها إلى ما فعله ابن الزبير، فقال له مالك‏:‏ يا أمير المؤمنين لا تجعل كعبة اللّه ملعبة للملوك لا يشاء أحد أن يهدمها إلا هدمها‏!‏‏!‏ فترك ذلك الرشيد، نقله عياض والنووي‏.‏ ولا تزال - واللّه أعلم - هكذا إلى آخر الزمان إلى أن يخربها ذو السُّويقتين من الحبشة كما ثبت ذلك في الصحيحين عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة‏)‏‏.‏ وعن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏كأني به أسود أفحج يقلعها حجراً حجراً‏)‏ وعن مجاهد عن عبد اللّه بن عمرو ابن العاص رضي اللّه عنهما قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة ويسلبها حليتها ويجردها من كسوتها، ولكأني أنظر إليه أُصَيْلع، أُفَيْدع، يضرب عليها بمسحاته ومعوله‏)‏ ‏"‏رواه أحمد‏.‏ والفَدْع‏:‏ زيغٌ بين القدم وعظم الساق‏"‏

وهذا - واللّه أعلم - إنما يكون بعد خروج يأجوج ومأجوج لما جاء في صحجيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ليُحجَنَّ البيتُ وليُعتَمرنَّ بعد خروج يأجوج ومأجوج‏)‏‏.‏

وقوله تعالى حكاية لدعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام‏:‏ ‏{‏ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك‏}‏ قال ابن جرير‏:‏ يعنيان بذلك واجعلنا مستسلمين لأمرك، خاضعين لطاعتك، لا نشرك معك في الطاعة أحداً سواك، ولا في العبادة غيرك‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ ‏{‏ربنا واجعلنا مسلمين لك‏}‏ قال اللّه‏:‏ قد فعلت ‏{‏ومن ذريتنا أمة مسلمة لك‏}‏ قال اللّه‏:‏ قد فعلت‏.‏ وقال السدي‏:‏ ‏{‏ومن ذريتنا أمة مسلمة لك‏}‏ يعنيان العرب‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ والصواب أنه يعم العرب وغيرهم، لأن من ذرية إبراهيم بني إسرائيل، وقد قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون‏}‏‏.‏

قلت وهذا الذي قاله ابن جرير لا ينفيه السدي فإن تخصيصهم بذلك لا ينفقي من عداهم، والسياق إنما هو في العرب، ولهذا قال بعده‏:‏ ‏{‏ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلِّمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم‏}‏ الآية‏.‏ والمراد بذلك محمد صلى اللّه عليه وسلم، وقد بعث فيهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم‏}‏، ومع هذا لا ينفي رسلاته إلى الأحمر والأسود لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا‏}‏ وغير ذلك من الأدلة القاطعة، وهذا الدعاء من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كما أخبرنا اللّه تعالى عن عباده المتقين المؤمنين في قوله‏:‏ ‏{‏والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما‏}‏‏.‏

وهذا القدر مرغوب فيه شرعاً فإنَّ من تمام محبة عبادة اللّه تعالى أن يحب أن يكون من صلبه من يعبد اللّه وحده لا شريك له‏.‏ ولهذا لما قال اللّه تعالى لإبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏{‏إني جاعلك للناس إماما‏}‏ قال‏:‏ ‏{‏ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين‏}‏، وهو قوله‏:‏ ‏{‏واجنبني وبني أن نعبد الاصنام‏}‏ وقد ثبت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث‏:‏ صدقةٍ جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له‏)‏‏.‏

‏{‏وأرنا ناسكنا‏}‏ قال عطاء‏:‏ أخرجها لنا، علمناها، وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏أرنا مناسكنا‏}‏ مذابحنا‏.‏ وقال أبو داود الطيالسي عن أبي الطفيل عن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏إن أبراهيم لما أُري أوامر المناسك عرض له الشيطان عند المسعى، فسابقه إبراهيم، ثم انطلق به جبريل حتى أتى به منى فقال‏:‏ هذا مناخ الناس، فلما انتهى إلى جمرة العقبة تعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أتى به إلى الجمرة الوسطى فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أتى به إلى الجمرة القصوى فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، فأتى به جمعاً فقال‏:‏ هذا المشعر، ثم أتى به عرفة فقال‏:‏ هذه عرفة، فقال له جبريل‏:‏ أعرفت‏؟‏‏)‏ ‏"‏أخرجه الطيالسي عن ابن عباس‏"‏‏.‏

 

رقم الآية ‏(‏ ‏(‏129

‏{‏ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم ‏}‏

يقول تعالى إخباراً عن تمام دعوة إبراهيم لأهل الحرم أن يبعث الّله فيهم رسولاً منهم، أي من ذرية إبراهيم، وقد وافقت هذه الدعوة المستجابة قدر اللّه السابق في تعيين محمد صلوات اللّه وسلامه عليه رسولاً في الأميين إليهم، وإلى سائر الأعجميين من الإنس والجن، كما قال الإمام أحمد عن العرباض بن سارية قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إني عند اللّه لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك، دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يرين‏)‏ ‏"‏رواهما الإمام أحمد في مسنده‏"‏

وقال أبو أمامة قلت‏:‏ يا رسول اللّه ما كان أول بدء أمرك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى بي، ورأت أمي أنه خرج منها نورٌ أضاءت له قصور الشام‏)‏ ‏"‏رواهما الإمام أحمد في مسنده‏"‏والمراد أن أول من نوه بذكره وشهره في الناس إبراهيم عليه السلام، ولم يزل ذكره في الناس مذكوراً مشهوراً سائراً، حتى أفصح باسمه خاتم أنبياء بني إسرائيل نسباً وهو عيسى بن مريم عليه السلام حيث قام في بني إسرائيل خطيباً، وقال‏:‏ ‏{‏إني رسول اللّه إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد‏}‏، ولهذا قال في هذا الحديث‏:‏ دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى بن مريم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام‏)‏ قيل‏:‏ كان مناماً رأته حين حملت به وقصَّته على قومها، فشاع فيهم واشتهر بينهم، وكان ذلك توطئة‏!‏ وتخصيصُ الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه ونبوته ببلاد الشام، ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلاً للإسلام وأهله، وبها ينزل عيسى ابن مريم إذا نزل بدمشق بمنارة الشرقية البيضاء منها، ولهذا جاء في الصحيحين‏:‏ ‏(‏لا تزال طائفة من أُمّتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر اللّه وهم كذلك‏)‏ وفي صحيح البخاري ‏(‏وهم بالشأم‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ربنا وابعث فيهم رسولا منهم‏}‏ يعني أُمّة محمد صلى اللّه عليه وسلم، فقيل له‏:‏ قد استجيب لك وهو كائن في آخر الزمان، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويعلمهم الكتاب‏}‏ يعني القرآن، ‏{‏والحكمة‏}‏ يعني السنة، قاله الحسن وقتادة، وقيل‏:‏ الفهم في الدين، ولا منافاة ‏{‏ويزكيهم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني طاعة اللّه والإخلاص، وقال محمد بن إسحاق‏:‏ ‏{‏ويعلمهم الكتاب والحكمة‏}‏‏:‏ يعلمهم الخير فيفعلوه والشر فيقوه، ويخبرهم برضا اللّه عنهم إذا أطاعوه ليستكثروا من طاعته ويجتنبوا ما يسخطه من معصيته، وقوله‏:‏ ‏{‏إنك أنت العزيز الحكيم‏}‏ أي العزيز الذي لا يعجزه شيء وهو قادر على كل شيء، الحكيم في أفعاله وأقواله فيضع الأشياء في محالها لعلمه وحكمته وعدله‏.‏

 

رقم الآية ‏(‏ 130 ‏:‏ 132 ‏)

V ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ‏.‏ إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ‏.‏ ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ‏}‏

يقول تبارك وتعالى رداً على الكفار فيما ابتدعوه وأحدثوه من الشرك باللّه، المخالف لملة إبراهيم الخليل إمام الحنفاء، فإنه جرَّد توحيد ربه تبارك وتعالى فلم يدع معه غيره، ولا أشرك به طرفة عين، وتبرأ من كل معبود سواه، وخالف في ذلك سائر قومه، حتى تبرأ من أبيه، فقال‏:‏ ‏{‏يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون* إلا الذي فطرني فإنه سيهدين‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه، فلما تبيَّن له أنه عدو لله تبرأ منه‏.‏ إن إبراهيم لأواه حليم‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن أبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين* شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم‏}‏، ولهذا وأمثاله قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه‏}‏‏؟‏ أي ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره، بتركه الحق إلى الضلال، حيث خالف طريق من اصطفي في الدنيا للهداية والرشاد من حداثة سنه إلى أن اتخذه اللّه خليلاً، وهو في الآخرة من الصالحين السعداء، فمن ترك طريقه هذا وملكه وملته، واتبع طرق الضلالة والغيّ فأيُّ سفه أعظم من هذا‏؟‏ أم أيّ ظلم أكبر من هذا‏؟‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏ قال أبو العالية وقتادة‏:‏ نزلت في اليهود أحدثوا طريقاً ليست من عند اللّه، وخالفوا ملة إبراهيم فيما أحدثوه، ويشهد لصحة هذا القول قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين* إن أولى اللناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين‏}‏ أي أمره اللّه بالإخلاص له والاستسلام والانقياد فأجاب إلى ذلك شرعاً وقدراً وقوله‏:‏ ‏{‏ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب‏}‏ أي وصّى بهذه الملة وهي الإسلام للّه، أو يعود الضمير على الكلمة وهي قوله‏:‏ ‏{‏أسلمت لرب العالمين‏}‏ لحرصهم عليها ومحبتهم لها حافظوا عليها إلى حين الوفاة ووصوا أبناءهم من بعدهم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلها كلمة باقية في عقبه‏}‏ والظاهر - واللّه أعلم - أن إسحاق ولد له يعقوب في حياة الخليل وسارة، لأن البشارة وقعت بهما في قوله‏:‏ ‏{‏فبشرناها بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب‏}‏، أيضا فقد قال اللّه تعالى في سورة العنكبوت‏:‏ ‏{‏ووهبنا له إسحق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب‏}‏ الآية‏.‏ وقال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏ووهبنا له أسحق ويعقوب نافلة‏}‏، وهذا يقتضي أنه وجد في حياته، وأيضاً فإنه باني بيت المقدس كما نطقت بذلك الكتب المتقدمة، وثبت في الصحيحين من حديث أبي ذر قلت‏:‏ يا رسول اللّه أي مسجد وضع أول‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏المسجد الحرام‏)‏، قلت‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏بيت المقدس‏)‏، قلت‏:‏ كم بينهما‏:‏ قال‏:‏ ‏(‏أربعون سنة‏)‏ الحديث فزعم ابن حبان أن بين سليمان الذي اعتقد بأنه باني بيت المقدس إنما كان جدده بعد خرابه وزخرفه - وبين أبراهيم أربعين سنة، وهذا مما أنكر على ابن حيان فإن المدة بينهما تزيد على ألوف السنين واللّه أعلم، وأيضاً فإن وصية يعقوب لبنيه سيأتي ذكرها قريباً، وهذا يدل على أنه ههنا من جملة الموصين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون‏}‏ أي أحسنوا في حلا الحياة، والزموا هذا ليرزقكم اللّه الوفاة عليه، فإن المرء يموت غالباً على ما كان عليه، ويبعث على ما مات عليه، وقد أجرى اللّه الكريم عادته بأن من قصد الخير وُفِّق له ويسر عليه، ومن نوى صالحاً ثبت عليه، وهذا لا يعارض ما جاء في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها‏)‏، لأنه قد جاء في بعض الروايات هذا الحديث‏:‏ ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وبعمل أهل النار فيما يبدو للناس، وقد قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى* وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى‏}‏‏.‏

 

رقم الآية ‏(‏133 ‏:‏ 134‏)

أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون ‏.‏ تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ‏}‏

يقول تعالى محتجاً على المشركين من العرب أبناء إسماعيل، وعلى الكفار من بني إسرائيل بأن يعقوب لما حضرته والوفاة، وصّى بنيه بعبادة الله وحده لا شريك له فقال لهم‏:‏ ‏{‏ما تعبدون من بعدي‏؟‏ قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق‏}‏، وهذا من باب التغليب لأن إسماعيل عمه، قال النحاس‏:‏ والعرب تسمي العم أباً نقله القرطبي، وقد استدل بهذه الآية الكريمة من جعل الجد أباً وحجب به الإخوة - كما هو قول الصديق - حكاه البخاري عنه‏.‏ وقوله ‏:‏ ‏{‏إلها واحدا‏}‏ أي نوحده بالألوهية ولا نشرك به شيئاً غيره، ‏{‏ونحن له مسلمون‏}‏ أي مطيعون خاضعون؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون‏}‏‏.‏ والإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة وإن تنوعت شرائعهم واختلفت مناهجهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون‏}‏ وقال صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تلك أمة قد خلت‏}‏ أي مضت، ‏{‏لها ما كسبت ولكم ما كسبتم‏}‏ أي أن السلف الماضين من آبائكم من الأنبياء والصالحين لا ينفعكم انتسابكم إليهم إذا لم تفعلوا خيراً يعود نفعه عليكم، فإن لهم أعمالهم التي عملوها ولكم أعمالكم ‏{‏ولا تسئلون عما كانوا يعملون‏}‏، ولهذا جاء في الأثر‏:‏ ‏(‏من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ‏"‏قد يطلق الأثر على ما يشمل الحديث المرفوع لأنه رواه مسلم مرفوعاً من حديث طويل عن أبي هريرة‏)‏‏.‏

 

رقم الآية ‏(‏135‏)

وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ‏}‏

عن ابن عباس قال‏:‏ قال عبد اللّه بن صوريا الأعور لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ما الهدى إلاّ ما نحن عليه فاتبعنا يا محمد تهتدِ، وقالت النصارى مثل ذلك، فأنزل اللّه عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا ‏}‏‏"‏رواه ابن اسحق عن عكرمة عن ابن عباس‏"‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قل بل ملة إبراهيم حنيفاً‏}‏ أي لا نريد ما دعوتمونا إليه من اليهودية والنصرانية بل نتبع ‏{‏ملة إبراهيم حنيفا‏}‏ أي مستقيما، وقال مجاهد‏:‏ مخلصاً، وقال أبو قلابة‏:‏ الحنيف الذي يؤمن بالرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم‏.‏

 

رقم الآية ‏(‏136‏)‏

قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ‏}‏

أرشد اللّه تعالى عباده المؤمنين إلى الإيمان بما أنزل إليهم بواسطة رسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم مفصلاً وما أنزل على الأنبياء المتقدمين مجملاً، ونص على أعيان من الرسل، وأجمل ذكر بقية الأنبياء وأن لا يفرقوا بين أحد منهم بل يؤمنوا بهم كلهم، ولا يكونوا كمن قال اللّه فيهم‏:‏ ‏{‏ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا* أولئك هم الكافرون حقا‏}‏ الآية‏.‏ عن أبي هريرة قال‏:‏ كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسروها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا باللّه وما أنزل اللّه‏)‏ ‏"‏رواه البخاري عن أبي هريرة‏.‏‏"‏وقال أبو العالية وقتادة‏:‏ الأسباط بنو يعقوب أثنا عشر رجلاً، ولد كل رجل منهم أمة من الناس فسموا الأسباط وقال الخليل بن أحمد‏:‏ الأسباط من بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل، وقال الزمخشري‏:‏ الأسباط حفدة يعقوب ذراري أبنائه الإثني عشر، وقد نقله الرازي عنه وقرره ولم يعارضه، وقال البخاري‏:‏ الأسباط قبائل بني إسرائيل، وهذا يقتضي أن المراد بالأسباط ههنا شعوب بني إسرائيل، وما أنزل الله من الوحي على الأنبياء الموجودين منهم، كما قال موسى لهم‏:‏ ‏{‏اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا‏}‏ الآية‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا‏}‏ قال القرطبي‏:‏ وسموا الأسباط من السبط وهو التتابع فهم جماعة، وقيل‏:‏ أصله من السَبَط بالتحريك وهو الشجر أي في الكثرة بمنزلة الشجر، الواحدةُ سبطة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ويبين لك هذا ما روي عن ابن عباس قال‏:‏ كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة‏:‏ نوح، وهود، وصالح، وشعيب، وإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وإسماعيل، ومحمدعليهم الصلاة والسلام‏.‏ قال القرطبي‏:‏ والسبط الجماعة والقبيلة الراجعون إلى أصل واحد، وقال قتادة‏:‏ أمر اللّه المؤمنين أن يؤمنوا به ويصدقوا بكتبه كلها وبرسله‏.‏

 

رقم الآية ‏(‏137 ‏:‏ 138‏)

فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ‏.‏ صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏فإن آمنوا‏}‏ يعني الكفار من أهل الكتاب وغيرهم ‏{‏بمثل ما آمنتم به‏}‏ يا أيها المؤمنون من الإيمان بجميع كتب اللّه ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم ‏{‏فقد اهتدوا‏}‏ أي فقد أصابوا الحق وأرشدوا إليه‏.‏ ‏{‏وإن تولوا‏}‏ أي عن الحق إلى الباطل بعد قيام الحجة عليهم ‏{‏فإنما هم في شقاق فسيكفيكم الله‏}‏ أي فسينصرك عليهم ويظفرك بهم ‏{‏وهو السميع العليم‏}‏‏.‏

‏{‏صبغة الله‏}‏ قال الضحاك عن ابن عباس‏:‏ دين اللّه وقد ورد عن ابن عباس أن نبيَّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن بني إسرائيل قالوا يا رسول اللّه هل يصبغ ربك‏؟‏ فقال اتقوا اللّه، فناداه ربه يا موسى سألوك هل يصبغ ربك‏؟‏ فقل نعم‏:‏ أنا أصبغ الألوان الاحمر والأبيض والأسود والألوان كلها من صبغي‏)‏، كذا وقع في رواية ابن مردويه مرفوعا وهو في رواية ابن ابي حاتم موقوف وهو أشبه إن صح إسناده، واللّه أعلم‏.‏

 

رقم الآية ‏(‏139 ‏:‏ 141‏)‏

‏{‏ قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون ‏.‏ أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون ‏.‏ تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ‏}‏

يقول اللّه تعالى مرشداً نبيّه صلوات اللّه وسلامه عليه إلى درء مجادلة المشركين‏:‏ ‏{‏قل أتحاجوننا في الله‏}‏ أي تناظروننا في توحيد اللّه والإخلاص له، والانقياد، واتباع أوامره، وترك زواجره ‏{‏وهو ربنا وربكم‏}‏ المتصرف فينا وفيكم، المستحق لإخلاص الإلهية له وحده لا شريك له ‏{‏ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم‏}‏ أي نحن براء منكم ومما تعبدون وأنتم براء منا كما قال في الآية الخرى‏:‏ ‏{‏فإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم، أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعني‏}‏ الآية‏.‏ وقال تعالى إخباراً عن إبراهيم‏:‏ ‏{‏وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله‏}‏ الآية‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه‏}‏ الآية‏.‏ وقال في هذه الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏ولنا أعمالكنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون‏}‏ أي نحن براء منكم كما أنتم براء منا، ونحن له مخلصون أي في العبادة والتوجه‏.‏ ثم أنكر تعالى عليهم في دعواهم أن إبراهيم ومن ذكر بعده من الأنبياء والاسباط كانوا على ملتهم، إما اليهودية وإما النصرانية فقال‏:‏ ‏{‏قل أأنتم أعلم أم اللّه‏}‏‏؟‏ يعين بل الّله أعلم، وقد أخبر أنهم لم يكونوا هودا ولا نصارى كما كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله‏}‏ قال الحسن البصري‏:‏ كانوا يقرأون في كتاب اللّه الذي أتاهم إن الدين الإسلام، وإن محمداً رسول اللّه، وإن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا براء من اليهودية والنصرانية، فشهدوا للّه بذلك وأقروا على أنفسهم اللّه، فكتموا شهادة اللّه عنهم من ذلك‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وما اللّه بغافل عما تعملون‏}‏ تهديد ووعيد شديد‏:‏ أي أن علمه محيط بعلمكم وسيجزيكم ليه، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏تلك أمة قد خلت‏}‏ أي قد مضت ‏{‏لها ما كسبت ولكم ما كسبتم‏}‏ أي لهم أعمالهم ولكم أعمالكم ‏{‏ولا تسئلون عما كانوا يعلمون‏}‏ وليس بغني عنكم انتسابكم إليهم من غير متابعة منكم لهم، ولا تغتروا بمجرد النسبة إليهم حتى تكونوا منقادين مثلهم لأوام اللّه، واتباع رسله الذي بعثوا مبشرين ومنذرين، فإنه من كفر بنبي واحد فقد كفر بسائر الرسل، ولا سيما بسيد الأنبياء وخاتم المرسلين، ورسول رب العالمين إلى جميع الإنس والجن من المكلفين صلوات اللّه وسلامه عليه وعلى سائر أنبياء اللّه أجمعين‏.‏

 

رقم الآية ‏(‏142 ‏:‏ 143‏)‏

سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ‏.‏ وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم ‏}‏

قيل‏:‏ المراد بالسفهاء ههنا مشركو العرب قاله الزجاج، وقيل‏:‏ أحبار يهود قاله مجاهد، وقيل‏:‏ المنافقون قاله السُّدي، والآية عامة في هؤلاء كلهم، واللّه أعلم‏.‏ عن البراء رضي اللّه عنه‏:‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلَّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون، فقال‏:‏ أشهد باللّه لقد صليت مع النبي صلى اللّه عليه وسلم قِبَل مكة، فداروا كما هم قبل البيت وكان الذي قد مات على القبلة قبل أن تحول قِبَل البيت رجالاً قتلوا لم ندر ما نقول في فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏وما كان اللّه ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم ‏}‏‏"‏رواه البخاري وأخرجه مسلم من وجه آخر‏"‏وعن البراء قال‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس، ويكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر اللّه، فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شرط المسجد الحرام‏}‏ فقال رجال من المسلمين‏:‏ وددنا لو علمنا علم من مات منا قبل أن نُصْرف إلى القبلة، وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس‏؟‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وما كان اللّه ليضيع إيمانكم‏}‏ وقال السفهاء من الناس - وهم أهل الكتاب - ما ولاَّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها‏؟‏ فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏سيقول السفهاء من الناس‏}‏ ‏"‏رواه ابن أبي حاتم‏"‏إلى آخر الآية‏.‏ وعن ابن عباس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود فاستقبلها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بضعة عشر شهراً‏.‏ وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم، فكان يدعو الله وينظر إلى السماء فأنزل اللّه عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏فولوا وجوهكم شطره‏}‏ أي نحوه، فارتاب من ذلك اليهود وقالوا‏:‏ ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها‏؟‏ فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ‏}‏‏"‏رواه ابن أبي حاتم ‏"‏وقد جاء في هذا الباب أحاديث كثيرة وحاصل الأمر‏:‏ أنه قد كان رسول الله صلى اللّه عليه وسلم أُمِر باستقبال الصخرة من بيت المقدس، فكان بمكة يصلي بين الركنين فتكون بين يديه الكعبة وهو مستقبل صخرة بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة تعذر الجمع بينهما فأمره اللّه بالتوجه إلى بيت المقدس قاله ابن عباس والجمهور‏.‏

والمقصود أن التوجه إلى بيت المقدس بعد مقدمه صلى اللّه عليه وسلم المدينة واستمر الأمر على ذلك بضعة عشر شهراً، وكان يكثر الدعاء والإبتهال أن يُوَجَّه إلى الكعبة التي هي قبلة إبراهيم عليه السلام، فأجيب إلى ذلك وأمر بالتوجه إلى البيت العتيق، فخطب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الناس فأعلمهم بذلك، وكان أول صلاة صلاها إليها صلاة العصر كما تقدم في الصحيحين‏.‏ وذكر غير واحد من المفسِّرين أن تحويل القبلة نزل على رسول اللّه وقد صلى ركعتين من الظهر وذلك في مسجد بني سلمة‏:‏ فسمي مسجد القبلتين وأما أهل قباء فلم يبلغهم الخبر إلى صلاة الفجر من اليوم الثاني كما جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي اللّه عنهما أنه قال‏:‏ ‏(‏بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذا جاءهم آت فقال‏:‏ إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد أُنْزِل عليه الليلة قرآن وقد أُمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة‏)‏ ‏"‏أخرجه الشيخان عن ابن عمر‏"‏ولما وقع هذا حصل لبعض الناس من أهل النفاق والريب والكفرة من اليهود ارتيابٌ وزيغ عن الهدى وتخبيط وشك، وقالو‏:‏ ‏{‏ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها‏}‏ أي قالوا‏:‏ ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا وتارة يستقبلون كذا‏؟‏ فأنزل الله جوابهم في قوله‏:‏ ‏{‏قل لله المشرق والمغرب‏}‏ أي الحكم والتصرف والأمر كله للّه، ‏{‏فأينما تولوا فثم وجه الله‏}‏ أي الشأن، كله في امتثال أوامر اللّه، فحيثما وجهنا توجهنا، فالطاعة في امتثال أمره ولو وجهنا في كل يوم مراتٍ إلى جهات متعددة فنحن عبيده، وهو تعالى له بعبده ورسوله محمد صلوات اللّه وسلامه عليه وأُمته عناية عظيمة، إذ هداهم إلى قبلة إبراهيم خليل الرحمن، وجعل توجههم إلى الكعبة أشرف بيوت اللّه في الأرض، إذ هي بناء إبراهيم الخليل عليه السلام، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏}‏‏.‏

عن عائشة قالت‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعني في أهل الكتاب‏:‏ ‏(‏إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة التي هدانا اللّه لها وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا اللّه لها، وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام آمين ‏"‏رواه الإمام أحمد عن عائشة مرفوعاً‏"‏‏)‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا‏}‏، يقول تعالى إنما حولناكم على قبلة إبراهيم عليه السلام، واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأُمم لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم، لان الجميع معترفون لكم بالفضل، والوسطُ ههنا‏:‏ الخيار والأجود، كما يقال‏:‏ قريش أوسط العرب نسباً وداراً أي خيرها، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وسطاً في قومه، أي أشرفهم نسباً، ومنه الصلاة الوسطى وهي العصر، ولما جعل اللّه هذه الأمة وسطاً خصَّها بأكمل الشرائع، وأقوم المناهج وأوضح المذاهب كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرَج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس‏}‏‏.‏

عن أبي سعيد قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏يدعى نوح يوم القيامة فيقال له هل بلَّغت‏؟‏ فيقول نعم، فيدعى قومه فيقال لهم هل بلغكم‏؟‏ فيقولون ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد، فيقال لنوح من يشهد لك‏؟‏ فيقول محمد وأمته، قال فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطاً‏}‏ قال‏:‏ والوسط العدل فتدعون فتشهدون له بالبلاغ ثم اشهد عليكم ‏"‏رواه البخاري والترمذي والنسائي‏"‏‏)‏ وعن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏‏(‏يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجلان وأكثر من ذلك فيدعي قومه فيقال‏:‏ هل بلَّغكم هذا‏؟‏ فيقولون‏:‏ لا فيقال له‏:‏ هل بلغت قومك‏؟‏ فيقول نعم‏:‏ فيقال من يشهد لك، فيقول محمد وأمته فيدعى محمد وأمته‏:‏ فيقال لهم هل بلغ هذا قومه‏؟‏ فيقولون نعم‏.‏ فيقال وما علمكم‏؟‏ فيقولون جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا فذلك قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطا‏}‏ قال عدلاً ‏{‏لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا‏}‏ ‏"‏رواه أحمد عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً‏"‏‏)‏ عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أنا وأُمتي يوم القيامة على كوم مشرفين على الخلائق ما من الناس أحد إلا ودَّ أنه منا، وما من نبي كذبه قومه إلا ونحن نشهد أنه قد بلغ رسالة ربه عزّ وجلّ‏)‏ ‏"‏رواه ابن مردويه عن جابر بن عبد الله‏"‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله‏}‏، يقول تعالى إنما شرعنا لك يا محمد التوجه أولاً إلى بيت المقدس، ثم صرفناك عنها إلى الكعبة، ليظهر حال من يتبعك ويطيعك ويستقبل معك حيثما توجهت ممن ينقلب على عقبيه، أي مرتداً عن دينه ‏{‏وإن كانت لكبيرة‏}‏ أي هذه الفعلة وهي صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة، أي وإن كان هذا الأمر عظيماً في النفوس، إلا على الذين هدى اللّه قلوبهم وأيقنوا بتصديق الرسول، وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه، وأن اللّه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فله أن يكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك، بخلاف الذين في قلوبهم مرض، فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكا، كما يحصل للذين آمنوا إيقانٌ وتصديق، كما قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول‏:‏ أيكم زادته هذه إيماناً‏؟‏ فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى‏}‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا‏}‏، ولهذا كان - من ثبت على تصديق الرسول صلى اللّه عليه وسلم واتباعه في ذلك، وتوجه حيث أمره اللّه من غير شك ولا ريب - من سادات الصحابة، وقد ذهب بعضهم إلى أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم الذين صلوا إلى القبلتين‏.‏ عن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏بينا الناس يصلون الصبح في مسجد قباء إذ جاء رجل فقال‏:‏ قد أنزل على النبي صلى اللّه عليه وسلم قرآن، وقد أُمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، فتوجهوا إلى الكعبة‏)‏ ‏"‏رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر‏"‏وفي رواية أنهم كانوا ركوعاً فاستداروا كما هم إلى الكعبة وهم ركوع، وهذا يدل على كمال طاعتهم للّه ولرسوله وانقيادهم لأوامر اللّه عزّ وجلّ رضي اللّه عنهم أجمعين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وما كان الله ليضيع إيمانكم‏}‏ أي صلاتكم إلى بيت المقدس قبل ذلك، ما كان يضيع ثوابها عند اللّه، وفي الصحيح عن البراء قال‏:‏ مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس، فقال الناس‏:‏ ما حالهم في ذلك‏؟‏ فأنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان ليضيع إيمانكم‏}‏ ‏"‏رواه الترمذي عن ابن عباس وصححه‏"‏، وقال ابن إسحاق عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وما كان اللّه ليضيع إيمانكم‏}‏ أي بالقبلة الأولى وتصديقكم نبيكم واتباعه إلى القبلة الأُخرى، أي ليعطيكم أجرهما جميعاً ‏{‏إن اللّه باناس لرؤوف ررحيم‏}‏ وقال الحسن البصري‏:‏ وما كان ليضيع إيمانكم‏:‏ أي مان اللّه ليضيع محمداً صلى اللّه عليه وسلم وانصرافكم معه حيث انصرف ‏{‏إن الله بالناس لرءوف رحيم‏}‏ وفي الصحيح أن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم رأى امرأة من السبي قد فرق بينها وبين ولدها، فجعلت كلما وجدت صبياً من السبي أخذته فألصقته بصدرها وهي تدور على ولدها، فلما وجدته ضمته إليه وألقمته ثديها، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على أن لا تطرحه‏)‏‏؟‏ قالوا‏:‏ لا يا رسول اللّه‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فواللّهِ، للُّه أرحمُ بعباده من هذه بولدها‏)‏‏.‏

 

رقم الآية ‏(‏144‏)‏

قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون ‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ كان أول ما نسخ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود فأمره اللّه أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بضعة عشر شهراً، وكان يحب قبله إبراهيم، فكان يدعو اللّه وينظر إلى السماء، فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏قد نرى تقلب وجهك في السماء‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فولوا وجوهكم شطره‏}‏ فارتابت من ذلك اليهود، وقالوا‏:‏ ‏{‏ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها‏؟‏ قل لله المشرق والمغرب‏}‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏فأينما تولوا فثم وجه الله‏}‏، وقال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وما جعلنا القبلة لتي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه‏}‏ وروى ابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا سلم من صلاته إلى بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء، فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام‏}‏ إلى الكعبة، إلى الميزاب يؤم به جبريل عليه السلام ‏"‏أخرجه الحافظ ابن مردويه عن ابن عباس‏"‏وعن علي بن ابي طالب رضي اللّه عنه‏:‏ ‏{‏فول وجهك شطر المسجد الحرام‏}‏ قال‏:‏ شطره قِبَله ‏"‏أخرجه الحاكم عن علي بن أبي طالب وقال‏:‏ صحيح الإسناد‏"‏، ثم قال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه‏.‏ وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما‏:‏ إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلةٌ لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي‏)‏‏.‏ وعن البراء‏:‏ أن النبي صلى اللّه عليه وسلم صلَّى قبل بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه قبلته قبل البيت، وأنه صلى صلاة العصر وصلى معه قوم، فخرج رجل ممَّن كان يصلي معه مر على أهل المسجد وهم راكعون فقال‏:‏ أشهد باللّه لقد صليت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قِبَل مكة فداروا كما هم قِبَل البيت ‏"‏أخرجه أبو نعيم عن البراء بن عازب‏"‏‏.‏

وقال عبد الرزاق عن البراء قال‏:‏ لما قدم رسول الله صلى اللّه عليه وسلم المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحب أن يحول نحو الكعبة فنزلت‏:‏ ‏{‏قد نرى تقلب وجهك في السماء‏}‏ فصرف إلى الكعبة‏.‏ وعن أبي سعيد بن المعلى قال‏:‏ ‏(‏كنا نغدو إلى المسجد على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنصلي فيه، فمررنا يوماً ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قاعد على المنبر، فقلت لقد حدث أمر فجلست، فقرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذه الآية‏:‏ ‏{‏قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها‏}‏ حتى فرغ من الآية، فقلت لصاحبي تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فنكون أول من صلى فتوارينا فصليناهما، ثم نزل النبي صلى اللّه عليه وسلم وصلى للناس الظهر يومئذ ‏"‏رواه النسائي عن أبي سعيد بن المعلّى‏"‏‏)‏ وكذا روى ابن مردويه عن ابن عمر‏:‏ أن أول صلاة صلاها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الكعبة صلاة الظهر وأنها الصلاة الوسطى، والمشهور أن أول صلاة صلاها إلى الكعبة صلاة العصر، ولهذا تأخر الخبر عن أهل قباء إلى صلاة الفجر، وقال الحافظ ابن مردويه عن نويلة بنت مسلم قالت‏:‏ صلينا الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة، فاستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا ركعتين، ثم جاء من يحدثنا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام، فحدثني رجل من بني حارثة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أولئك رجال يؤمنون بالغيب‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره‏}‏ أمر تعالى باستقبال الكعبة من جميع جهات الأرض، شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً، ولا يستثنى من هذا شيء سوى النافلة في حال السفر، فإنه يصليها حيثما توجه قالبه وقلبه نحو الكعبة، وكذا في حال المسايفة في القتال يصلي على كل حال، وكذا من جهل جهة القبلة يصلي باجتهاده وإن كان مخطئاً في نفس الأمر لأن اللّه تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها‏.‏

 مسألة

وقد استدل المالكية بهذه الآية على أن المصلي ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده كما ذهب إليه الشافعي وأحمد وأبو حنيفة، قال المالكية بقوله‏:‏ ‏{‏فول وجهك شطر المسجد الحرام‏}‏ فلو نظر إلى موضع سجوده لاحتاج أن يتكلف ذلك بنوع من الإنحناء وهو ينافي كمال القيام، وقال بعضهم‏:‏ ينظر المصلي في قيامه إلى صدره، وقال شريك القاضي‏:‏ ينظر في حال قيامه إلى موضع سجوده كما قال جمهور الجماعة، لأنه أبلغ في الخضوع وآكد في الخشوع، وقد ورد به الحديث، وأما في حال ركوعه فإلى موضع قدميه، وفي حال سجوده إلى موضع أنفه، وفي حال قعوده إلى حِجْره‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم‏}‏ أي واليهود الذين أنكروا استقبالكم الكعبة وانصرافكم عن بيت المقدس، يعلمون أن اللّه تعالى سيوجهك إليها بما في كتبهم عن أنبيائهم من النعت والصفة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأمته، وما خصه اللّه تعالى به وشرَّفه من الشريعة الكاملة العظيمة، ولكنَّ أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسداً وكفراً وعناداً ولهذا تهددهم تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏وما الّله بغافل عما يعملون‏}‏‏.‏

 

رقم الآية ‏(‏145‏)‏

ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين ‏}‏

يخبر تعالى عن كفر اليهود وعنادهم، ومخالفتهم ما يعرفونه من شأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وأنه لو أقام عليهم كل دليل على صحة ما جاءهم به لما اتبعوه وتركوا أهواءهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون* ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم‏}‏، ولهذا قال ههنا‏:‏ ‏{‏ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وما أنت بتابع قبلتهم‏}‏ إخبار عن شدة متابعة الرسول صلى اللّه عليه وسلم لما أمره اللّه تعالى به، وأنه كما هم مستمسكون بأرائهم وأهوائهم، فهو أيضاً مستمسك بأمر اللّه وطاعته واتباع مرضاته، وأنه لا يتبع أهواءهم في جميع أحواله، ولا كونه متوجهاً إلى بيت المقدس لكونها قبلة اليهود، وإنما ذلك عن أمر اللّه تعالى، ثم حذَّر تعالى عن مخالفة الحق الذي يعلمه العالم إلى الهوى، فإن العالم الحجة عليه أقوم من غيره‏.‏ ولهذا قال مخاطباً للرسول والمراد به الأمة‏:‏ ‏{‏ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين‏}‏‏.‏

 رقم الآية ‏(‏146 ‏:‏ 147‏)‏

‏{‏الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ‏.‏ الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ‏}‏

يخبر تعالى أن علماء أهل الكتاب يعرفون صحة ما جاءهم به الرسول صلى اللّه عليه وسلم كما يعرف أحدهم ولده، والعرب كانت تضرب المثل في صحة الشيء بهذا كما جاء في الحديث أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لرجل معه صغير‏:‏ ‏(‏ابنك هذا‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ نعم يا رسول اللّه أشهد به، قال‏:‏ ‏(‏أما أنه لا يخفى عليك ولا تخفى عليه‏)‏ ويروى عن عمر أنه قال لعبد اللّه بن سلام‏:‏ أتعرف محمداً كما تعرف ولدك‏؟‏ قال‏:‏ نعم وأكثر، نظل الأمين من السماء على الأمين في الأرض بنعته فعرفته، وابني لا أدري ما كان من أمه قلت ‏:‏ وقد يكون المراد‏:‏ ‏{‏يعرفونه كما يعرفون أبناءهم‏}‏ من بين أبناء الناس كلهم، لا يشك أحد ولا يمتري في معرفة ابنه إذا رآه من أبناء الناس كلهم، ثم أخبر تعالى أنهم مع هذا التحقق والإتقان العلمي، ‏{‏ليكتمون الحق‏}‏ أي ليكتمون الناس ما في كتبهم من صفة النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏{‏وهم يعلمون‏}‏، ثم ثبَّت تعالى نبيّه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين وأخبرهم بأن ما جاء به الرسول صلى اللّه عليه وسلم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك فقال‏:‏ ‏{‏الحق من ربك فلا تكونن من الممترين‏}‏‏.‏

 

رقم الآية ‏(‏148‏)‏

‏{‏ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير ‏}‏

عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏ولكل وجهة هو مولياها‏}‏ يعني بذلك أهل الأديان، يقول لكل قبيلة قبلةٌ يرضونها، ووجهه اللّه حيث توجه المؤمنون، وقال أبو العالية‏:‏ لليهود وجهة هو موليها، وللنصارى وجهة هو موليها، وهداكم - أنتم أيتها الأمة - إلى القبلة التي هي القبلة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ أمر كل قوم أن يصلوا إلى الكعبة، وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا‏}‏، وقال ههنا‏:‏ ‏{‏أينما تكونوا يأتب بكم اللّه جميعاً إن اللّه على كل شيء قدير‏}‏ أي هو قادر على جمعكم من الأرض وإن تفرقت أجسادكم وأبدانكم‏.‏